مخاطبة الشعوب والأمم
3 أيام مضت
المقالات
198 زيارة
عائشة الزعتري – فلسطين
إن الشعوب والأمم هي مجال العمل الأساسي للكيانات السياسية من دول وأحزاب وغيرها، فالناس يشكلون أهم مقومات المجتمع والركن الأساسي فيه، وبهم تتعلق باقي المقومات من أفكار ومشاعر وأنظمة، فعليهم يطبق النظام، وهم من يحمل الأفكار السائدة فيه ويتأثر بها مشاعريا، لذلك لا بد للقائمين على السياسة من العناية بمخاطبة الناس والتفاعل معهم لكسب قيادتهم.
فالأصل في الدولة أن تسنّ القوانين من أجل رعاية شؤون الناس وضمان العيش الكريم لهم، وحين تتخذ من القوانين ما يحافظ على نظام الحكم فيها وعلى عوامل قوتها يجب عليها أن تحافظ على قاعدتها الشعبية، لأنها أهم عامل من عوامل القوة التي تدعم نظامها الحاكم. فالدولة كيان تنفيذي، والناس هم موضع تنفيذ هذا النظام بشكل مباشر أو غير مباشر. وهم كذلك يشكلون الوسط الذي تتفاعل فيه المنظومة السياسية لهذه الدولة وما تقوم عليه من أفكار.
هذا بالنسبة للدولة، أما بالنسبة للأحزاب فإن الأصل فيها أن تستهدف الناس بما تحمله من ثقافات ومشاريع سياسية وفكرية، فالأحزاب السياسية تكتلات تحمل مشاريع سياسية مبنية على أفكار معينة، والناس هم المجال التفاعلي لمشاريعها ولما تقوم عليه من أفكار، وهم موضع عملها وتأثيرها، وهي بحاجة لتأييد الناس لما تحمله من ثقافة ومشاريع وغايات، وحتى في أعمالها السياسية المباشرة مع الحكام والأنظمة، فهي تحتاج لالتفاف الناس حولها.
وبناء على ذلك، كان من حق الناس المشاركة في الحياة السياسية،لكونهم الجانب الحيوي الأساسي الذي تدور فيه الحياة السياسية، وهم المحور التفاعلي فيها. ومن الأمثلة على حقوقهم حقهم في أن يُحكموا بنظام ربهم، وانتخاب الحكام ومحاسبتهم، وقبول مشاريع الأحزاب السياسية أو رفضها، والعمل مع هذه الأحزاب، وحقهم بالمطالبة بالعيش في مجتمع يوفر لهم الحياة الكريمة، وغير ذلك.
ومن الطبيعي أن يوصل الناس ما يرضونه من أنظمة حكم ومن حكام إلى سدة الحكم،ويكون هذا نتيجة طبيعية لتأييدهم ولانقيادهم الفكري والسياسي، وفي حالة ما إذا استعصى ذلك وأُخذ الحكم بالقوة فلا بد من تأييد جماهير الشعب لعملية تسلّم الحكم هذه، ولا بد من التفافهم حول نظام الحكم الجديد المراد تطبيقه، وإلا لن تستقر ركائز هذه الدولة.
من أجل ذلك كله كان لا بد من اعتناء القائمين على السياسة بالناس اعتناءً إلزامياً، وذلك من أجل أخذ قيادتهم، وبناء قاعدة شعبية بين جماهيرهم، وتقويتها في حال وجودها، ولا يكون ذلك إلا بمخاطبتهم والتفاعل معهم حتى يحصل التأثير فيهم ثم كسب قيادتهم، وإلا أدى تغييب دورهم وإهماله إلى مخاطر تعيق تحقيق الغايات المطلوبة منها، وبالتالي تهديد وجودها واستمرارها.
إذاً مخاطبة الشعوب والأمم تكون من أجل كسب قيادتهم، للسير معهم لتحقيق غايات معينة، وأساس هذه المخاطبة التوجه إلى عقولهم وتفكيرهم سواء بسواء مع إنسانيتهم وفطرتهم، بثقافة تحدد هويتهم وانتماءهم، وتضمن كرامتهم، وتقدم معالجات ترتقي بهم وتحقق لهم معاني العيش الكريم في مجتمعهم، فإذا رضوا بها وأقبلوا عليها انقادوا لها والتفوا حول مشروعها السياسي.
وتتوقف مخاطبة الناس على ما يحدده السياسيون القائمون على شؤون الناس وتبني مصالحهم لماهية علاقتهم مع الناس، وللطريقة التي يتبعونها في التفاعل معهم، وذلك على النحو الآتي:
أولاً: إن حُددت أنها علاقة تكاملية يشارك فيها الناس في الحياة السياسية بأدوار معينة وواجبات محددة، وُجد بناءً عليه الاهتمام بمخاطبة الناس بلغة تفاعل واستقطاب، لكسب قيادتهم، ومن أجل دفعهم لأداء دورهم، وتحقيق تأثرهم وتأثيرهم المراد في المجتمع.
وتُعد السياسة في الإسلام أبرز مثال على هذه الطريقة في التفاعل مع الناس. فالإسلام يقرّ حق الناس الطبيعي في المشاركة في الحياة السياسية، بالإضافة إلى أنه حق شرعي كذلك للأمة الإسلامية، فالإسلام يجعل السلطان للأمة،من حيث هي مكلفة بتطبيق شرع الله ومكلفة أن تنيب عنها من يطبقه، فالسيادة للشرع والسلطان للأمة، وهاتان قاعدتان من قواعد الحكم في الإسلام. ومن جهة أخرى يعمل الإسلام على صهر الناس في بوتقته، حتى ينقادوا فكرياً للإسلام عقيدة وشريعة، أي يصبحوا جزءاً أصيلاً من الأمة ومن ثم علاقتها مع الدولة.
فالإسلام له طريقة في مخاطبة الناس وصهرهم في بوتقته، وهي مفروضة على الدولة الإسلامية، وعلى الأحزاب السياسية التي تحمل الدعوة لإقامة الدين في الأرض، وعلى الأحزاب العاملة في ظل الدولة الإسلامية، وكلٌ لتحقيق غايات معينة يحددها الشرع لها. وهذا يتضح من خلال مجموعة من الأحكام الشرعية وخاصة سيرة رسولنا الكريم ﷺ وطريقته في نشر الدعوة وإقامة دولة الإسلام.
أما طريقة رسول الله ﷺ فقد أقرت أهمية دور الناس الذين دخلوا في دين الله حين كتّل عليه الصلاة والسلام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم معه في العمل الدعوي لنشر الإسلام ولإقامة دولته، حتى لمع تاريخ الإسلام ببطولاتهم في حمل الدعوة وبناء الدولة.
وطريقته ﷺ تقوم على العمل مع الناس واستقطابهم إلى دعوة الإسلام، والتفاعل معهم لصهرهم في بوتقته الفكرية والشعورية، وإيجاد رأي عام عندهم عن الدعوة، لتُبنى بشكل طبيعي قاعدة شعبية مؤيدة للدعوة في عملها، وداعمة للدولة عند قيامها، فتكون بذلك جماهير الأمة مع الكتلة العاملة لإقامة الدين في الأرض في خندق واحد، ومن ثم تكون هي والكتلة والدولة في خندق واحد يجمعهم فيه إمام المسلمين تحت مظلة الإسلام، وتوجد بذلك جماعة المسلمين.
فطريقة رسول الله ﷺ تؤكد أنه لا بد لإقامة الحكم ولاستمراره قوياً عظيماً من العمل مع الأمة ولأجلها، من أجل تحميلها أفكار الإسلام ومفاهيمه بصفتها مبدأ، فبها يقوم الدين وبها يحفظ. وهذا التفاعل مع الأمة هو مرحلة من طريقة رسولنا الكريم ﷺ في العمل لإقامة دولة الإسلام.
وما قام به الصحابي الجليل مصعب بن عمير في يثرب من عملية صهرية لإنشاء قاعدة شعبية للدولة التي سيقيمها رسول الله ﷺ خير مثال على قيام طريقة رسول الله ﷺ بالعمل مع الناس لحمل الدين وإقامته في الأرض.
وحزب التحرير،من حيث هو حزب سياسي مبدؤه الإسلام، يتبع طريقة رسول الله ﷺ هذه في عمله لإقامة الخلافة، فيعمل مع الأمة ولها، ويبذل الجهود لمخاطبتها بلسان صدق، حتى كان الرائد الذي لا يكذب أهله، وهو يسعى جاهداً مستعيناً بالله العزيز في بناء قاعدة شعبية تؤيد مشروع الخلافة وتطالب بها وبتطبيق شرع الله.
أما بالنظر إلى الشريعة الإسلامية، فهي تزخر بأحكام ومفاهيم ترسخ أهمية الأمة في إقامة الدولة، وفي عملها بعد إيجادها، كمفهوم الجماعة الإسلامية، وأحكام البيعة التي تكون بالرضا والاختيار، وأن السلطان للأمة ويحرم غصبه منها، وفرضية محاسبة الأمة للحكام، وأحكام الشورى، وأن الخليفة نائب عن الأمة وليس أجيراً عندها، ووجود محكمة المظالم جهازا من أجهزة الحكم لرفع مظالم الحكام عن الرعية، وفرضية قتال الحاكم إن هو أظهر كفراً بواحاً، وأن على الدولة أن تفقّه شعوب البلاد المفتوحة التي دخلت في الإسلام حديثاً بأحكام الدين وأن تثقفهم بالإسلام حتى يصبحوا جزءاً أصيلاً من الأمة، وغيرها من الأحكام الشرعية التي تؤكد أن العلاقة تكاملية بين الدولة الإسلامية وبين الأمة.
ثانياً: في حال بنيت العلاقة على اغتصاب السلطة من الناس وحرمانهم من حقوقهم السياسية وإلغاء دورهم وواجباتهم تجاه دولتهم، تلجأ الدولة حينها إلى لغة الإخضاع والإكراه والاستبداد، وتتحول الأنظمة إلى دكتاتوريات، وتتحول علاقة الشعب بالنظام إلى علاقة عداء، لأن الحاكم في الحقيقة نصّب نفسه عدواً مستبداً للشعب مغتصباً للحكم وليس حاكماً راعياً لشعبه، وقطع كل ارتباط فكري أو مشاعري مع أبناء شعبه.
وهذا حال أنظمة الحكم العميلة المستبدة في بلادنا الإسلامية التي لم تخاطب شعوبها إلا بلغة البطش والإجرام والحرمان من أبسط مقومات الحياة كرغيف الخبز ووقود المدفأة، في سياسة معتمدة لإلهاء الشعوب وإشغالها بتوفير لقمة العيش عن الاشتغال بالسياسة والتفكير والمطالبة بحقوقها، حتى تحولت البلاد الواسعة إلى سجون ومعتقلات للشعوب المقهورة. وهذا الحال الأليم كان يؤذن بخروج الناس بأي شكل من أشكال العصيان، وانفجارهم في وجوه الأنظمة، فالظلم الذي يطول ليله لا بد أن يبزغ عليه فجرٌ يوماً ما، تصحو فيه همة الناس للمطالبة بالحقوق ورفض الطغيان، فكان أن خرجت الشعوب المسلمة في البلاد العربية على الأنظمة وطالبت بسقوطها.
وكلما زاد بطش الدولة بشعبها زادت الدولة ضعفاً في الحقيقة، لأن الطبيعي في علاقة الشعب بالدولة أن يلتف الشعب حول النظام ويؤيده ويكون حامياً طبيعياً له إلى جانب الجيش وأهل القوة في البلد. وهذا حق للشعب وواجب عليه، فإذا استخدمت الدولة لغة البطش والطغيان لقمع الشعب وإلغاء واجبه ومنع حقه، أوجدت حالة من الغليان عند الشعب وحالة من العداوة بينها وبين الناس، فالشعب أهم عوامل قوة الدولة، وسياسة الطغيان لقمع الشعب تلغي هذا العامل المهم وتضعفه وتحوله إلى عامل إضعاف، الأمر الذي يضعف الدولة، وإن ظن الحكام أنهم بطغيانهم يحمون عروشهم، إلا أنها حقيقةً تتحول إلى عروش هشة، لفقدانها التأييد الشعبي بل تجلب على نفسها عداوة الناس ونقمتهم عليها.
وهذه الأنظمة في بلادنا الإسلامية في الأساس نصبها أعداء الأمة من بريطانيا إلى فرنسا ثم أمريكا، فكانت وجها استعماريا آخر لوجودها العسكري في بلادنا، وأدوات استعمارية تابعة لها تنفذ من خلالها أجنداتها وخططها ضد أمتنا وبلادنا. وعمدت إلى تسليم الحكم إلى عائلات وطوائف لا تمثل الشعوب المسلمة وليس لها أي رصيد من التأييد الشعبي، بل هي جهات مرفوضة لدى شعوبها، ولو أنيط الأمر إلى أهله ما كان لهذه العائلات والطوائف أن تتسلم الحكم يوماً، أو حتى تكون من وجهاء الناس. وكان هذا من ضمن خطة الكفار المستعمرين لزيادة الشقة والخلاف بين النظام الحاكم والشعب، ولإيجاد حالة من العداوة بينهما، ولمنع التحام الشعب بالدولة. لذلك كانت دول الكفر باستمرار توقد النزاع والصراع الطائفي في بلادنا، وتدعم الأنظمة الأمنية المخابراتية، وتعمل على هدم الإسلام عند الشعوب، وتوريد الفساد إلى بلادنا، كل ذلك وغيره الكثير لإبعاد الأمة الإسلامية والمخلصين فيها عن مقاليد الحكم ولتضمن عدم رجوع دولتهم.
والنظام البعثي العلوي في سوريا مثال على ذلك، حيث كان النظام هو العدو الأول لأهل سوريا، فسقط رغم استعماله لكل أدوات الظلم والقمع، ورغم دعمه وإسناده من أمريكا وأتباعها، ورغم عقود طويلة من خضوع الناس وسكوتهم وخوفهم. ولكنهم ثاروا وطالبوا بحريتهم وحقوقهم وتحكيم شرع ربهم، فقوبلوا بمزيد من الطغيان، حتى أُلجئوا إلى التضحية بكل عزيز يملكونه من أجل حريتهم ومطالبهم والخلاص من الطاغوت البعثي الذي يحكمهم.
ثالثاً: قد تكون لغة خطاب الناس لغة تضليل وخداع، حيث يقرّ الحكام بأهمية الناس ودورهم الداعم للحكم، ولكنهم يتبعون سبل النفاق، لأن نظام حكمهم أو نهجهم مخالف لهوية الناس وثقافتهم، وهذا نهج تتبعه بعض الأنظمة والحركات والجماعات حتى تلتف الجماهير حولها لتأييدها والهتاف لها، وذلك من خلال أعمال ظاهرها تبني مصالح الناس وتحقيق مطالبهم، كالإنجازات الاقتصادية مثلاً، أو مجابهة أعداء الأمة بشكل أو بآخر، وإلحاق بعض الهزائم في صفوفهم، أو حتى إطلاق شعارات تعادي أمريكا أو كيان يهود، ما يُبرز حالة الرضا والقبول عند الجماهير. وعادة ما ينتهي المطاف بهؤلاء المخدوعين بتمجيد الأشخاص والتصفيق لهم حتى لو ظهر اعوجاجهم صريحاً واضحاً.
ومن الأمثلة على هذا الأسلوب في مخاطبة الشعوب سياسة أردوغان وحكومته في تركيا، فعلى الرغم من عدم تطبيقه الشريعة الإسلامية، ودورانه في فلك أمريكا عدوة المسلمين وتحقيقه مصالحا الاستعمارية، وخذلانه لقضايا المسلمين مراراً وتكراراً مع استحواذه على الإمكانيات العظيمة العسكرية والاقتصادية التي تملكها تركيا…استطاع أن يصنع لنفسه قاعدة جماهيرية كبيرة في تركيا والمنطقة الإسلامية، وذلك من خلال الإنجازات والمعالجات الاقتصادية التي اتبعتها حكومته فوفرت للناس مستوى معاشياً مقبولاً، وأظهرت تركيا بلداً قوياً وآخذا في التقدم، بالإضافة للقوة العسكرية، فرضي الناس عن إنجازاته وأيدوا سياساته، بالإضافة لأعمال يتقصد فيها إثارة عاطفة الناس حيث يظهر نفسه متلبساً بالعباءة الإسلامية، وذلك ليكسب ولاء الشعب المسلم وتأييده.
والشعوب المسلمة اليوم وبعد عقود طويلة من الأحداث العظيمة التي مرت بها، تَحرك فيها التفكير ونما عندها الوعي بحمد الله، وأُلجئت إلى الاشتغال بقضاياها المصيرية كالتغيير والمطالبة بتحكيم شرع الله، وتحرير الأرض المباركة، وإعادة مسرى رسول الله ﷺ، وإسقاط الأنظمة الطاغية وغيرها من القضايا، ولكنها في كل حدث تمر فيه تُختبر بوصلتها، وتكاد تصيب في مرات كثيرة، ولكن سرعان ما تنحرف عن الوجهة الصحيحة، لما للأعداء وأذنابهم في بلادنا من سلطان ونفوذ، فيكيد أعداؤنا ويتآمرون، وينجحون في جولات كثيرة في حرف بوصلة الأمة وتشتيت جهودها. لذلك تبقى الأمة بحاجة إلى قيادة واعية مخلصة تتقدم الصفوف، وتخاطبهم بمشروع يجمع صفوفهم وراء حاكم مسلم يحكمهم بشرع ربهم، وتخاطبهم بالحلول التي شرعها ربهم لقضاياهم. وإن الله سبحانه وتعالى يهيئ لدينه جنوداً من عباده المخلصين، ويدبر للأمة مَن يقودها إلى التغيير والنصر والتمكين بحوله وقدرته سبحانه وما ذلك على الله بعزيز.
1446-10-28