حركة طالبان وفرصة إقامة الخلافة
3 أيام مضت
المقالات
205 زيارة
يوسف أرسلان – أفغانستان
إن الحياة الدنيا كحوض مليء بماء الخسران، لا ينجو منه إلا الغواصون الذين يعرفون اغتنام الفرص. ولهذا السبب، سُمِّيَ يوم القيامة بـ”يوم الحسرة”، لأن الكثير من البشر قد غرقوا في خسران الدنيا، ولم يستفيدوا من الفرص الثمينة التي أتيحت لهم في حياتهم، ففرطوا بسهولة في اللحظات الذهبية التي وفرها الله تعالى لنهضة الأمة وعزتها. وعلى النقيض من ذلك، فإن “السابقين” يحظون في الآخرة بمكانة رفيعة، لأن أبرز صفاتهم كانت اغتنام الفرص والاستفادة منها في وقتها المناسب.
الفرص كالسحب العابرة التي سرعان ما تختفي عن الأنظار، أو كظبي سريع لا يسهل اصطياده. وعلى المؤمن أن يكون كالصياد اليقظ، دائم السعي لاقتناص الفرص، مترقباً لها بعناية. ومن هنا، فإن الله تعالى يضع أمامنا في حياتنا الفردية والمجتمعية فرصاً ثمينة بين الحين والآخر، لنكفّر بها عن ذنوبنا، ونرفع بها درجاتنا الروحية، أو لننال بها نصر الله وتوفيقه. وما أجمل هذه العبارة: “إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها، لعل نفحة منها تصيبكم فلا تشقون بعدها أبداً”.
نحن أمة وصفها الله تعالى بأنها خير أمة أُخرجت للناس، لنقود البشرية وفق أحكام الإسلام ونرشدها إلى الحق. لقد أعزنا الله تعالى بالإسلام، بشرط أن نلتزم به ونفي ببيعتنا لخليفة واحد، كي نكمل هذه الرسالة العالمية. لقد منحنا الله تعالى هذه الفرصة العظيمة لنعيش في هذه الدنيا، ونكون جزءاً من أمة المصطفى ﷺ، ونتحمل هذه المهمة الجليلة ونسعى لتحقيقها.
لكننا اليوم في عصر تعيش فيه الأمة الإسلامية بدون خليفة، في حالة من التفرّق والتشتت. ومنذ هدم الخلافة العثمانية عام 1924م، أتيحت للأمة فرص عدة لإقامة الخلافة. وقد وصلت جماعات سياسية وعسكرية، تدّعي التحاكم إلى الإسلام، إلى السلطة خلال هذه المائة عام، لكنها بمجرد وصولها إلى الحكم، انحرفت عن تطبيق الإسلام، مثل بقية الحكام. فاختبأوا خلف حجج مثل المصلحة والواقع، أو الاستطاعة، وابتعدوا عن رسالتهم، ليخضعوا للنظام العالمي العلماني، وفي النهاية، إما سقطوا أو خبت شعلة الإسلام في قلوبهم.
هذه الجماعات، في كل مرة وصلت فيها إلى السلطة، لم تتّعظ من الماضي، وأضاعت الفرص الإلهية بسهولة.
وفي خضم ذلك، وخلال القرن الماضي، ظهرت فرص خاصة للأفغان كان بإمكانهم من خلالها نصرة الدين والعمل على إقامة الخلافة. وفيما يلي نستعرض باختصار ثلاث فرص كبرى في التاريخ الحديث لأفغانستان، كان بإمكان الأفغان فيها اتخاذ خطوات نحو إقامة الخلافة، ولكنهم لم يستفيدوا منها.
على الرغم من أن أفغانستان ظلت لقرون خارج نطاق الحكم الرسمي للخلافة، إلا أن علاقة إيجابية كانت دائماً قائمة بين هذه الأرض ودار الخلافة. ففي الوقت الذي كانت فيه الخلافة العثمانية، التي عُرفت بـ”الرجل المريض”، تصارع أزمات متعددة، كانت أفغانستان تحت نفوذ الإمبراطورية البريطانية. وقد بذل السلطان عبد الحميد الثاني، ببصيرة وجهود عظيمة، محاولات لإنقاذ الخلافة من هذا الوضع، لكنه وجد نفسه في النهاية وحيداً. وقام بإصدار نفير عام دعا فيه جميع المسلمين في العالم إلى الجهاد من أجل الحفاظ على نواة الخلافة.
في تلك الظروف، امتنعت أفغانستان عن اتخاذ أي إجراء بذريعة الأعذار السياسية والجغرافية. والغريب أن حكام أفغانستان اليوم يكررون التبريرات نفسها. والمثير للاهتمام أن شبه القارة الهندية كانت أيضاً تحت سيطرة بريطانيا، وكانت جغرافياً أبعد عن أراضي الخلافة، ولكن المسلمين هناك لم يقفوا مكتوفي الأيدي، فقد أسسوا “حركة الخلافة” وقاموا بخطوات ملحوظة، سواء على المستوى المالي أو بالنفس، دعماً للخلافة العثمانية.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، قررت الخلافة العثمانية دخول الحرب من أجل بقائها، وانضمت إلى جانب ألمانيا. وفي عام 1915، وصلت بعثة مشتركة عثمانية-ألمانية إلى كابول بهدف إقناع الأمير حبيب الله خان بإعلان الجهاد ضد بريطانيا وروسيا القيصرية، لكنه امتنع عن اتخاذ هذا الإجراء، حيث كان خاضعاً لنفوذ بريطانيا وسيطرتها. وعلى الرغم من أن الأمير حبيب الله خان، مثل حكام اليوم، قدّم أعذاراً مثل الموقع الجغرافي وعدم الاستطاعة، إلا أن السبب الحقيقي وراء قراره كان رغبته في الحفاظ على رضا بريطانيا. في الواقع، كانت بريطانيا قد وعدته بمساعدة مالية قدرها 60 مليون روبية مقابل تبني سياسة الحياد، لكنها لم تفِ طبعا بهذا الوعد.
وفي ذلك الوقت، كان مسلمو الهند يعلقون آمالهم على الأفغان، ولذلك هاجرت مجموعات منهم إلى أفغانستان، على أمل أن ينصرهم الأفغان ويعلنوا الجهاد ضد بريطانيا. ومن جهة أخرى، كان المسلمون في أفغانستان، خلافاً لأوامر الأمير حبيب الله خان، يميلون لدعم الخلافة العثمانية ونصرة مسلمي الهند، ورأوا في تدخل بريطانيا في الحرب العالمية فرصة مناسبة للسعي نحو الاستقلال.
لكن حبيب الله خان، لكبح المشاعر الإسلامية لدى الشعب ومنع أي انتفاضة، لجأ إلى علماء البلاط ليستغل نفوذهم في تهدئة الناس. فقام العلماء بإعداد رسالة بعنوان “طاعة الأمير”، ووزعوها في المساجد والثكنات العسكرية، لحث الناس على التزام سياسات الأمير ودعمه!
وصلت بعثة من الهند بقيادة عبيد الله السندي إلى كابول، حيث استقروا هناك بهدف إيقاد شعلة الأمل للجهاد والوحدة الإسلامية. وعندما تولى أمان الله خان السلطة وبدأت حرب استقلال أفغانستان ضد بريطانيا، أدى المهاجرون الهنود دوراً فعالاً في هذه المعركة وأسهموا بشكل كبير في النضال.
وبعد هزيمة بريطانيا، واستقلال أفغانستان، اشتعل أمل جديد في قلوب المسلمين حول العالم. في ذلك الوقت، لم تبقَ أرض إسلامية مستقلة سوى أفغانستان والخلافة العثمانية. ونظراً لأن أفغانستان استطاعت هزيمة بريطانيا، التي احتلت معظم البلاد الإسلامية وأسهمت في هدم الخلافة العثمانية، ازداد اهتمام المسلمين بأفغانستان وتعاظمت آمالهم فيها بوصفها مصدرا للنهوض الإسلامي.
كانت هذه أول فرصة تاريخية للأفغان لإقامة الخلافة. كان المسلمون في الهند يأملون أن يستمر جهاد الأفغان، وأن يتحرك جيش المسلمين نحو الهند. بل وصل الأمر إلى أنهم طلبوا من أمان الله خان أن يتولى قيادة المسلمين، ويضطلع بمهمة إحياء الأمة الإسلامية وتحقيق وحدتها.
لكن المسلمين المهاجرين أصيبوا بخيبة أمل مرة أخرى، لأنهم لم يكونوا على دراية بأن أمان الله خان قد تربى في مدرسة “المشروطية”، وكان ينوي اتباع سياسة مصطفى كمال. ومع ذلك، لم يرغب أمان الله خان في رفض طلب الشعب بشكل صريح، خصوصاً مع تزايد المطالب داخل أفغانستان بإعلان الخلافة.
في لويا جيرغابغمان التي عقدت عام 1924م، كان موضوع إلغاء الخلافة وعلاقة أفغانستان بتركيا الجديدة من المحاور الرئيسية للنقاش. وقد خصص العلماء وأمان الله خان يوماً كاملاً لمناقشة قضية الخلافة، ولكن لم يتوصلوا لنتيجة، واستمر النقاش إلى اليوم الثاني. وخلال هذين اليومين، وصف العلماء إلغاء الخلافة بأنه حدث مؤلم، وأكدوا أن تنصيب خليفة واجب شرعي. كما طلب بعض العلماء من أمان الله خان أن يعلن نفسه خليفة للمسلمين.
ملاي ترکستاني، في بيان مختصر حول أهمية الخلافة، قال: “علماء الإسلام من كل نوع ومقام يرون الذات الهميونية مستحقة وجديرة بالخلافة، ويجب عليكم قبول هذا المنصب الرفيع”. إلا أن أمان الله خان، بعقليته وتوجهه، كان يسعى إلى تأسيس دولة قومية، وكان يميل إلى التعامل مع العالم، بما في ذلك بريطانيا التي خاض ضدها الحرب.
وقد رفض أمان الله خان هذا الطلب بأسلوب دبلوماسي، مقدّماً أعذاراً مثل عدم واقعية الطلب، وعدم الاستطاعة، وحتى عدم جدوى الخلافة. وفي رده على ملاي ترکستاني قال: “أنا، بالنظر إلى أقوالكم وأقوال الآخرين، لا أستطيع أن أحمل هذا العبء الثقيل الذي أرى في طريقه عقبات لا نهاية لها، ولا أقبل بتفريق عالم الإسلام. كما ذكرت، يجب أن نناقش عيوب وفوائد وجود أو غياب الخلافة؛ وبعد ذلك فإن تحديد موقفها هو مسؤولية علماء الإسلام فقط”.
إن الإسلاميين الذين وصلوا إلى السلطة حتى الآن، والذين يعتبرون أنفسهم فكرياً وسياسياً على خلاف مع نهج مصطفى كمال، ورضا شاه، وأمان الله خان، والشريف حسين، وغيرهم من العلمانيين والقوميين، لم يُظهروا في الواقع فرقاً كبيراً عنهم، واتبعوا سياسات مشابهة إلى حد بعيد.
السياسات العلمانية، والقومية، والواقعية، المتمحورة حول الاقتصاد التي انتهجها أمان الله خان أصابت المسلمين بخيبة أمل، تماماً كما أن السياسات هذه نفسها اليوم تُحبط المسلمين من قِبل القادة الذين يدّعون التوجه الإسلامي.
البعثة التي لجأت من الهند إلى أفغانستان بدأت تفقد الأمل تدريجياً، واضطرت في النهاية إلى مغادرة أفغانستان والهجرة إلى أماكن أخرى. وقد زادت هذه الخيبة بشكل خاص عندما وقّع أمان الله خان معاهدات سلام مع بريطانيا في كابول وراولبندي، حيث تعهد بأن أفغانستان لن تشكل تهديداً لبريطانيا. كما أعرب عن رغبته في إقامة علاقات سياسية واقتصادية مع بريطانيا، وهو ما أدى إلى إحباط المسلمين في الهند وبقية البلاد الإسلامية بشكل أكبر.
هذه الفرصة ضاعت، ولكن عندما احتل الاتحاد السوفيتي أفغانستان، نهض الشعب الأفغاني بشجاعة لا مثيل لها وأعلن الجهاد ضده وواجهه بثبات. وبمعية الله ثم تضحيات الشعب، تحقق النصر، وحصل المجاهدون على دولة قوية مزودة بتجهيزات عسكرية متقدمة. مرة أخرى، توجهت آمال المسلمين في جميع أنحاء العالم نحو أفغانستان.
المجاهدون المهاجرون من مختلف البلاد الإسلامية، الذين قاتلوا مع الأفغان، كانوا يأملون في اليوم الذي تصبح فيه أفغانستان مركزاً للقوة السياسية والخلافة، لتحرير البلاد الإسلامية من قبضة الحكام الظالمين.
وصلت وفود من الجماعات الإسلامية إلى أفغانستان لاستغلال هذه الفرصة التاريخية لإقامة الخلافة، كانت الجماعات الجهادية العربية والعجمية مليئة بالأمل، خاصة وأنه كان بين المجاهدين الأفغان أفراد يرون أن الخلافة هي النظام الإسلامي الوحيد.
وكان المجاهدون يؤمنون بأن “الخلافة هي منارة النور التي يطوف المسلمون حولها كالفراشات”.
لكن المجاهدين الأفغان لجأوا إلى تشكيل دولة قومية وانغمسوا في فتنة السلطة. وقد أدت الخلافات الداخلية والصراعات على النفوذ إلى انحرافهم عن المسار الرئيسي، ما أدى إلى تدميرهم بأيديهم.
ونتيجة لذلك، لم يُصَب المسلمون المهاجرون والمجاهدون الأفغان بخيبة أمل فقط، بل عاد كثير منهم إلى ديارهم، بينما هاجر آخرون إلى أراضٍ أخرى.
كانت هذه هي المرة الثانية التي يفوّت فيها الأفغان فرصة تاريخية كبرى لإقامة الخلافة، بعد إسقاط إمبراطورية أخرى.
هذه المرة، نحن الجيل الذي يشهد هزيمة الناتو وظهور الفرصة الإلهية الثالثة لإقامة الخلافة الراشدة الثانية في أفغانستان والمنطقة. لقد أوجدت هزيمة أمريكا والناتو في هذه الأرض أملاً جديداً للمسلمين في جميع أنحاء العالم بأن أفغانستان قد تتمكن من استغلال هذه الفرصة الذهبية وعدم تكرار الأخطاء السابقة.
من المفارقات أن هذه الفرصة الإلهية قد جاءت في ظل ظروف استثنائية؛ فمن جهة، هُزم الناتو في أفغانستان، ومن جهة أخرى، انشغل الغرب بشدة بالحرب في أوكرانيا وسياسة احتواء الصين.
هذا الوضع يمثل فرصة استثنائية للمسلمين في أفغانستان ليستغلوا هذه الظروف القائمة ويتخذوا خطوة تاريخية نحو إقامة الخلافة الراشدة، مستفيدين من انشغال أعدائهم بصراعاتهم.
الآن، ومع اشتداد ابتلاء المسلمين بسبب حرب غزة، ومع النداءات التي تتعالى من كل أنحاء البلاد الإسلامية للمجاهدين في أفغانستان كي يهبّوا لنصرة إخوانهم وأخواتهم، يبرز هذا السؤال المحوري: هل سيتمكن حكام أفغانستان من اقتناص هذا الظبي المتمثل في الفرصة التاريخية، أم سيفعلون كما فعل السابقون، ويلتحقون بصفوف أولئك الذين يعضّون على أنامل الحسرة؟
التاريخ كتاب مليء بالعبر. أمان الله خان، الذي أضاع الفرصة الإلهية واختار الوفاء بعهده مع بريطانيا بدلاً من الوفاء بميثاقه مع الله تعالى، لم يكن ليتخيل أن شخصاً مجهولاً مثل أمير حبيب الله كلکاني يمكنه أن يكسر عرش سلطته.
ثم أليس مصير المجاهدين الأفغان الذين قاتلوا ضد السوفييت ثم لجأوا إلى الدولة القومية، ليغرقوا في حب الدنيا، واضحاً أمام أعيننا؟
والآن، هل سيستمر الحكام الذين وصلوا إلى السلطة في أفغانستان، وسوريا، وغيرها من البلاد الإسلامية تحت شعار الإسلام، في تقديم نفس حجج أعداء الإسلام، مبررين لأنفسهم سياساتهم المخالفة للإسلام، مع أنهم يرون كيف كانت عواقب من سبقهم؟
الآن، وفي هذه الفرصة التاريخية الثالثة، يدعو حزب التحرير بوضوح حكام أفغانستان إلى إقامة الخلافة الراشدة الثانية. ولكن، ماذا سيكون ردهم؟
هل سنرى مرة أخرى هروباً من الفرص الإلهية، أم ستكون هذه المرة استجابة حقيقية لدعوة التاريخ والواجب؟
لا يزال باب الفرصة مفتوحاً، والمسلمون في جميع أنحاء العالم، وخصوصاً المجاهدون المهاجرون الذين قاتلوا جنباً إلى جنب مع الأفغان، كانوا دائماً يأملون في هذا اليوم الذي يُعز فيه دين الله، ويُنصر فيه المظلومون، وتُقام فيه الخلافة التي تجمع شتات الأمة وتعيد لها مجدها.
إن السعادة تكمن في أن هذا الباب لا يزال مفتوحاً؛ فالفرصة أمام المجاهدين اليوم ليكونوا بـنصرتهم لحزب التحرير “الأنصار الآخرين”. ولكن، هذا الباب لن يبقى مفتوحاً إلى الأبد. فمن فُتح له باب من الخير، عليه أن ينهض فوراً ويستفيد منه، لأنه لا يعلم متى يُغلق هذا الباب. وإن لم يفعل، فسيكون يوم القيامة من النادمين.
ولهذا، نحذّر هذه الأمة وحكامها من الغفلة وإضاعة هذه الفرص العظيمة، كما قال الله تعالى: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [مريم: ٣٩]
فالفرصة أمامنا، لكن علينا أن ندرك أن هذا الباب لن يبقى مفتوحاً إلى الأبد، ومن يتوانى اليوم سيكون من الحسرة نادماً غداً.
1446-10-28